لا شك أن الشعر الحساني ينحو إلى استهجان الأساليب المباشرة في الغزل؛ لأن القيود الاجتماعية - بطبيعتها البدوية - تشجب التشبيب ولا تتسامح مع الأدب الماجن الغارق في ذكر أوصاف ومحاسن وأسماء النساء، كما لا تتسامح حتى مع الإشارات البسيطة.
تلك هي القاعدة. لكن الخروج عليها ظل واقعا عاشه الشعراء وأبدعوا فيه، متمردين بذلك على الرقيب الاجتماعي، وقاذفين بما في جِعابهم من مكبوتات. فعندما يحاكي سيديّ ولد هدار محبوبته، بقوله:
عَـــنَّ يَـ زَهْوْ الْعَيْنْ امْشَيْتِ وامْشَيْــنَ
اوَّلَيْتِ، غَيْرْ امْنَيْـنْ وَلَّيْــــتِ وَلَّيْـــــنَ
تَـــوْ امْنَيْنْ امْشَيْـتِ امْشَيْـــنَ يَخَيْـــتِ
واعْكَـــبْتِ وَلَّيْـــتِ وَلَّيْـــنَ؛ رَاعِيـــنَ
مَــــا فتِّ وَسَّيْـــتِ كُــونْ ألِّ وَسَّيْــنَ
فهو يرفض - ولو في مخياله - إلا أن يكون لها ظلا في تلك الأُصَيـْلات المسروقة، مع أنه يعرف - في قرارة نفسه - أنه بهذا الشعر النواسي يتحدى مجتمعا لا يقبل الاختلاء، ولا يرضى بالاختلاط، ولا حتى الرفقة. لقد ذهب سيديّ حين ذهبت المحبوبة، ثم عادت، لكنها ما إن عادت حتى عاد، ومباشرة لما ذهبت ذهب، ولما أقفلت عائدة عاد؛ هكذا ظل يحذوها رجْلا على رجـْل، باصقا على وجه الرقيب ولاعنا أساليب اللواعج الدفينة.
وهذا امحمد ولد أحمد يوره يعبر عن تمرده على العذرية المفرطة بقوله:
إِيلا جَيْتكْ يَـ اغْلَ لَغْيَــادْ ينْكَالْ انِّ جَيْتكْ وَجَّـــادْ
أُذَاكْ اعْلَ قَدْرِ مَاهْ امْكَادْ وِيلا مَا جَيْتكْ والْغَيْتــكْ
عَنْدِ تثْقَــــالْ اعْلــيَّ زَادْ منْصَابِ جَيْتكْ مَا جَيْتكْ
فهو إن زار "أغلى غيداء" سيقول الرقيب (غير الرحيم بأمثاله) إنه إنما جاء مُتـَيَّما يحدوه الوَجـْد، وهو ما لا يناسب مقامه. وإن لم يزرها بات مكلومَ النفس. وهنا لا مخرج غير التفلسف عسى الشاعر "يزور ولا يزور" معشوقته.
لا شيء أكره لولد أحمد يوره من الطرق الملتوية في التعبير عن خلجاته. فالتي لم يعد يستطيع أن يتذكر غيرها من شدة الوَلـَهِ بها، جعلته يحب بلـْدتـَيْ "بُلـَيـْتْ"، وستجعله يحب جداول الماء في "فـَيْ" و"تلعبونَ" و"ابهنضام"، وحتى القرية التي تسكن فيها أسرة الزنوج "المعروفة".
وهكذا، في تغريدته المارقة، يصرخ متجاوزا الحدود الوهمية:
غَلاَّتْ الِّ مَا يَــحْجَـــلِّ خَاطِيهَ بُلَيْـتْ التَّـلِّ
والْكبْـــلِ، والدُّوْرْ اتْغَلِّ مَسْيَلْ فَيْ أُ تَلْعَبُونَ
وابْهنْضَامْ أُ لكْصَيْرْ الِّ مَادكَّ فِيهْ أُمَنْكُــونَ
لكن قمة التحدي وأقصى التلبس بجريمة التصريح والتشبيب، نراها جلية في قول امحمد ولد هدار:
كَاعْ أَلاَّ كلْتُـــــولِ يَخَـيْ مَا نسْمِ عَيْشَةُ بـ اشْوَيْ
أَحْ، اخْصَارتْكُمْ فِيهَ، لَيْ مَا نسْمِ عَيْشَــــةُ كلْـتُ
عَنْ مَـــا نسْمِ عَيْشَةُ عَيْـ ـــشَةُ عَيْشَـةُ عَيْشَــــةُ
إنها مواجهة عنيفة مع الرقيب، معركة طاحنة بين الشاعر والقيود الاجتماعية، ثورة فظيعة ضد مجهول - معلوم عبـَّـــر عنه ولد هدار بـ "كلتولِ" و"يخي "إنه الرقيب المجسد في أناس يطلبون من الشاعر أن لا يدعوّ محبوبته (عيشة) باسمها. آهٍ منهم! ويا لحرقة الشاعر! كيف له أن ينطق اسم الحبيبة عيشة! بل لـَيَنـْطِقنـَّه ثلاثا كي يعلم الرقيب أنه، في لحظة الشطح الغرامي، قادر على تحطيم الطابور وحرق المحاذير وكسر جميع القيود. لقد حاول الرقيب منعه من أن يلفظ اسم محبوبته، فتحداه بشجاعة نادرة، وتلفظ باسمها ست مرات في ستة أشطر (ثلاث مرات متعمدة مقصودة لذاتها، وثلاث مرات متلاعَب بها).
تلك نماذج من الاستثناءات التي تؤكد قاعدة الترميز المفروض في الغزل اللهجي لدرجة أن الكثير من الشعراء (المكرهين) خلقوا من الغموض أدبا جزلا وجميلا. لننظر في مقطوعتين للأديب الراحل، المغفور له، ببها ولد الحسن، ولنـُمعن النظر في الشحنة التي حمَّلها لعبارة "ذاك" في آخر هذه المقطوعة:
يَـ الْجَدِيدَ ذَ امْنْ التّكْـــلاَبْ مَــالكْ شِ بِيهْ اعْلَ لَحْبَابْ
أُ لاَهُ زَيْنْ، أُ كلّت مرْتَاب اهْلكْ فِيـــكْ إِدلْ اعْـلَ ذَاكْ
واسْتَحْفِيكْ أُكثْرت لَعْلاَبْ عَادتْ فِيكْ، أُ كلّت مَرْعَاكْ
ادْلِيلْ اعْلَ ذَاكْ؛ أُ لطْنَـابْ غَالبْنِ كَاعْ افْـ ذَاكْ امْعَــاكْ
غَيْرْ ابَّاشْ اتْجِيكْ أَهَالِيـكْ أُيَرْجَعْ لكْ مَرْعَاكْ أُ مَعْنَاكْ
واتْكلْ اعْلاَبكْ واسْتَحْفِيكْ حَشَاكْ؛ أَلاَّ يَرْجَــعْ لكْ ذَاكْ
فالجديده، أو تكنت، أصبحت قفرا يبابا بعد أن هجرها أهلها، كما لم تعد مظنة للهو، ولعبت بها لاعبات "الرمال"، وجفت مراعيها. لكن عودة أهل الجديدة إليها، وعودة مراعيها إليها، وتراجع زحف رمالها عنها، واسترجاعها لأسباب لهوها، أمور كلها مرهونة بعودة "ذاك" إليها. إنه الغموض بأبهى تجلياته وأجمل مراميه. فالعمود الفقري للمقطوعة كلها هو "ذاك"، والمعاني البعيدة والسامية فيها ليست إلا "ذاك"، والمراد والمقصود والمعنِي بالمقطوعة أصلا يتجسد في أمر لا نعرف عنه إلا أنه "ذاك". ومع ذلك، ورغم كل ما يكتنف "ذاك" من غموض، فالشاعر أطاع الرقيب ولم يستغل غير المساحة المسموح بها، فأرضَـى المجتمعَ ليـُــدخل نفسه في ورطة غير بديهية استطاع الخروج منها إلى عالم من الغموض الأدبي الجميل.
دوامة الغموض هذه نجد مثالا لها في مقطوعة أخرى، يقول فيها ببها:
يَوْمْ اصْبَاحِ عَنْدْ السَّـــــــلاَمْ فـ الرَّاحَ ترْكيبت لغْمَــــامْ
كَافَيْتْ امْسَوْحَلْ شَوْرْ اخْيَامْ أهْـلْ ابَّالْ انْزُورْ اهْلْ ابَّالْ
واظَّحَّيْتْ أُ رغْتْ التّخْمَـــامْ يَعْطِينِ منْ فَمْ اسْتكْبَـــــالْ
واحْكَمْنِ لمْكِيلْ، أُ لكْـــــلاَمْ كَاملْ كَاعْ الَّ مَا ينْكَـــــالْ
يبدو أن شاعرنا بات وأصبح عند حي يدعى "السلام"، ومنه اتجه شمالا نحو مضارب أهل ابـَّال، وبقي هناك ضحى ذلك اليوم، ثم أجهد نفسه ليحملها على العودة جنوبا، إلا أنه قالَ لدى الحي. ليظل المتلقي على ظمَئِه باحثا دون جدوى عن بقية هذا الأدب الجميل، متسائلا عن أسباب هذا المقيل، ودوافعه، ونتائجه... لقد توقفت القصة فجأة فصُرم حبلُ انسيابيتها، وتقطعت بها السبل عند هذا المقيل اللغز. وما علينا إلا أن نرضى بهذا القدر المبتور من قصة الشاعر لأنه لا يريد لنا أن نعرف البقية، "فما كل كلام يقال". إذن: إصباحٌ في حي، وإضحاءٌ في حي آخر، ومحاولة يائسة لرجوع القهقرى، ثم قائلة مُحَيـِّرة. والنتيجة المبتغاة هي تلك الاستفهامات الحزينة التي يلف فيها الشاعرُ قصته خوفا من مقص الرقيب. إنه أدب الغموض الذي ولد من رحم الخوف، ومن الخوف اكتسب جماله الفذ.
بدال ولد سيدى ميله
من منشورات وكالة الرائد